السبت، 25 سبتمبر 2010

الصليب في التقليد المقدس 1


بقلم المتنيح الأنبا ياكوبوس
أسقف الزقازيق ومنيا القمح



" وأما من جهتى فحاشا لى أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذى به قد صلب العالم لى وأنا للعالم " (غل6: 14 ) .


اشارة الصليب تراث تقليدى زاخر يتغلغل حياة المؤمنين من القرن الأول بتسليم رسولى .


" بخصوص المعتقدات والممارسات المحفوظة فى الكنيسة
والمسلمة عموماً ، بعضها استلمناه كتابة وبعضها الآخر تسلمناه
كما وصلنا ، فى سر حسب تقليد الرسل .


وكلا هذين التسليمين لهما نفس القوة فيما يختص بالدين ...

وعلى سبيل المثال للنوع الثانى فلنأخذ المثل الأول والعام ،


فمن الذى علمنا كتابة أن نرسم بعلامة الصليب ؟ .

أو

ما هى الكتابة التى علمتنا أن نتجه فى الصلاة ناحية الشرق ؟ ...

القديس باسيليوس


وإن كنا لا نستطيع أن نحدد استخدام الصليب ، لأن من المسلم به أن اشارة الصليب يلزم أن تشاركنا حياتنا كلها بحركاتها وسكناتها ، كما يخبرنا بذلك كل من القديس كيرلس الأورشليمى وترتلياس والقديس يوحنا ذهبى الفم .

فى كل خطوة نُقدم عليها أو أى حركة نقوم بها فى دخولنا
وخروجنا عندما نلبس ملابسنا، عندما نستحم عندما نجلس لنأكل، عندما نوقد المصابيح ، وعندما نخلد الى الفراش ،

وفى كل أعمالنا اليومية علينا أن نرسم الصليب على جبهتنا ،


وبخصوص هذه القوانين اذا كنتم تصممون على العثور على استشهادات من الاسفار المقدسة تثبتها فلن تجدوا شيئاً .


فالتقليد يقوم لكم بمثابة المصدر الوحيد الذى انحدرت منه هذه الوصايا إليكم ، كما تقوم العادة السارية كموثق لهذه الشهادة ، والايمان كالشاهد .

العلامة ترتليانوس



وصارت علامة الصليب تُرسم على ملابسهم وعلى تيجان الملوك وتُرسم فى الصلوات ، وعلى المائدة المقدسة يرتفع الصليب ، وفى كل مكان من ارجاء العالم يضيئ الصليب بأكثر مما تضيء الشمس .

القديس يوحنا ذهبى الفم


يمكننا أن نقسم أنواع مواقف الحياة التى تستدعى الالتجاء الى استخدام الصليب :


أولاً : مواقف الصلاة :

من أعظم المصادر التى نستقى منها ضرورة استخدام قوة الصليب اثناء الصلاة ، هى التقليد الرهبانى الذى لا يزال حياً فى كثير من تسليماته منذ نشأة الرهبنة الأولى ، وذلك لأن الرهبنة هى حياة الصلاة بجملتها .

والحياة الرهبانية هى فى الواقع حرارة الكنيسة غير المنطفئة ، والدعوة الرسولية الأولى غير المتزعزعة .

ونرى أن حمل الراهب للصليب أثناء الصلاة ، أمر واقعى مطابق لحياته ، لأن منظر الصليب فى يده أو أمامه يشعله اشعالاً اذ يزكى موقعه كمن يتبع المسيح فعلاً ، قلباً وعقلاً وروحاً .

والصليب لا يفارق يد الراهب أو فمه أو قلبه ! ...

وهو بحد ذاته حينما ينتصب فى الصلاة يرفع يديه بمقتضى واجب طقس الصلاة ، ولا يخفضهما ، فيرسم بشكله صليباً ويقدم نفسه للعالم مصلوباً ...


وعند بدء كل سجدة يصنعها الراهب فى صلواته يرشم صليباً على جبهته استمراراً للمتابعة العقلية والقلبية للمسيح ، إذ أن السجدة هى تعبير عن التوبة والانسحاق واشارة الصليب هى قوة الاتضاع بعينها التى تغذى التوبة أى المطانية .


هذا الصليب اذن يرفع فكرنا الى الوضع الرهبانى الأصيل فى حياة الجهاد والصلاة ،

فالراهب يلبس الصليب بطقس خاص وصلاة وتسليم انواع صلوات حتى يستمد منه قوة مستمرة على التجرد المطلق وإماتة الشهوات والجسد والسهر قبالة الحروب التى يثيرها العدو .


أى أن الصليب فى حياة الراهب يمتد من أوقات الصلاة ليشمل كل ساعات العمر . لذلك يُدعى الرهبان الناسكون بلُباس الصليب .


ولابسى الصليب بالمعنى الانجيلى،

هوانسان صارلا شئ مثل ميت


وفى التقليد الرهبانى الأصيل كما سلمه الملاك للأنبا باخوميوس يفرض على الراهب أن يلبس لباس الرأس عليه صليب بخيط قرمزى . لأنه معروف أنه حصن الانسان الذى يتحصن فيه ضد العدو هو الفكر المقدس ، لذلك صار الصليب على الجبهة قوة تعين الراهب فى صراعه الفكرى مع قوات الظلمة العقليةغيرالمنظورة .




بواسطة الصليب يستطيع الانسان أن يطرد كل خداعات الشياطين .

القديس اثناسيوس الرسولى



ومن معدات الراهب التقليدية الهامة فى حياته ،


عكازه وتسلمته الرهبنة عن مؤسسها القديس انطونيوس [251 –256 م ] ،

وهى العصا

التى يتوكأ عليها اثناء وقوفه فى الليل والتى يصحبها معه فى تنقلاته ورحلاته عبر الصحراء ،


ولكن هى فى الظاهر عصا ، وفى الحقيقة سلاح خفى يعرفه العدو فهى صليب ،


إنما صليب خاص معروف لدى علماء فنون الصليب ،

بصليب انطونيوس


ويسمى:Crux commissaأى صليب الاستعدادأوالانطلاق ،

وهو على شكل T.لأنه يوجد ثلاثة اشكال رئيسية للصليب :


الصليب الذى صلب عليه السيد المسيح والمتفق على شكله + ويسمى Crux immissa . والصليب الذى صلب عليه اندراوس الرسول × ويسمى Crux Decussata .

والمعروف أن عكاز الراهب هو فى حقيقته صليب خفى يعتبر أول استخدام لصليب اليد ، لأن الكنيسة ظلت مدة فى البدء تستخدم أصابع اليد فى رشم الصليب .



إذن فعكاز الراهب هو بداية استخدام الصليب فى اليد ،

لذلك نرى من التقاليد الراسخة والمتبعة تماماً أن الاسقف يحمل عكازه إياه القديم بصفته راهباً ، أى صليبه الخفى الذى سمى فيما بعد بعصا الرعاية ، عوضاً عن الصليب فى اليد .


أما الكاهن فلا يحمل عكازاً حسب التقليد الأصيل وإنما يحمل صليباً فى يده دائماً .


وليس فى طقس سيامة الكاهن أى اشارة الى تسليمه عصا الرعاية ، ولكن فى سيامة الاسقف يدخل عكازه القديم معه فىالرسامة وتبارك الكنيسة عليه ليصير عصا الرعاية .



وانتقل شكل العكاز ومعناه الى الكنيسة كلها بعد ذلك ،


فصارت تحمله على البيارق للتعبير عن النصرة والقيامة .


كل هذه التقاليد الرهبانية لم تنحصر فى الطقس الرهبانى بل صارت مشاعة للكنيسة كلها بكل شعبها ، لأن الرهبنة كانت ويجب أن تظل نموذجاً للحياة المسيحية ، نموذجاً واضحاً واصيلاً وليس وضعاً خاصاً أو نموذجاً فريداً أو حياة غريبة ،

فالرهبنة صورة أصيلة للكنيسة الأولى .

لذلك نرى العلمانيين الأتقياء يستخدمون نفس هذه التقاليد عينها بصورة مبسطة .



إن خشبة الصليب ذات قوة فعالة للخلاص لكل الناس ، ولو أنها كما أعلم جزء من شجرة حقيرة ربما أقل قيمة من كافة الاشجار ، ولكن العليقة التى رآها موسى أيضاً كانت كذلك والله استعلن بحضوره فيها ... فهذه كلها قد جُعلت واسطة لتكميل معجزات عظيمة لما قبلت قوة الله .
( القديس غريغوريوس النيسى )


ومن الأمور التقليدية المتوازنة فى الحياة الرهبانية الأصيلة ، أن صليب الراهب الذى كان يستمد منه القوة والعون فى صلواته أثناء حياته كان يوضع فى يده اليمنى وتُسند يده على صدره عندما توضع جثته فى القبر . وذلك لأن من المقطوع به أن للصليب قوة الغلبة على الموت والفساد ومن له سلطان الموت .


علامة الصليب تذكار الانتصار فوق الموت وفوق فساده .

القديس اثناسيوس الرسولى




ثانياً: مواقف الخطر وزمان الأتعاب والتجارب :



أبناء النور ينظرون للمخاطر والاتعاب والتجارب كحرب ينبغى ملاقاتها بقلب شجاع وبأس وقوة . لذلك يسارعون بدون قلق الى لبس اسلحة الحرب لمواجهة العدو فى الداخل والخارج ، فى الداخل لصد كل هجمات الشكوك والحزن المفسد والتذمر واليأس ، وفى الخارج لاحتمال جروح العدو واشواكه التى تصيب الجسد والاسم والكرامة والأمال الكاذبة .


هنا الصليب يدخل كسلاح فعال جداً فى هذه الحروب ويأتى بنتائج منظورة ومحسوسة وباهرة للغاية .


من يريد أن يختبر هذا عملياً فليأت وينظر كيف تبطل خداع الشياطين والعرافةالكاذبة وعجائب السحر بمجرد رشم الصليب، والشياطين تلوذ بالفرار .

القديس اثناسيوس الرسولى




بدلاً من أن تحمل سلاحاً أو شيئاً يحميك ، احمل الصليب واطبع صورته على اعضائك وقلبك ، وارسم به ذاتك لا بتحريك اليد فقط بل ليكن برسم الذهن والفكر أيضاً . ارسمه فى كل مناسبة فى دخولك وخروجك ، فى جلوسك وقيامك ، فى نومك وعملك ، ارسمه باسم الآب والابن والروح القدس .

القديس مارافرام السريانى



نحن نكرم الصليب ونطلب قوته المحيية فى صلواتنا قبل أن نطلب معونة القديسين أو شفاعتهم . وذلك لأن الصليب هو علامة ابن الانسانورسم تجسده وآلامه لخلاصنا . فعلى الصليب قدم السيد المسيح نفسه ذبيحة لله الآب من أجل خطايانا لكل من يؤمن به .

لذلك صارت علامة الصليب هى الاشارة المشتركة بين جميع المؤمنين كرمز للخلاص والمحبة المشتركة .

القديس كيرلس الأورشليمى



ثالثاً : مواقف السلامة والراحة والفرح :


يوجد سلام حقيقى ويوجد سلام كاذب ، وتوجد راحة حقيقية وراحة كاذبة ، ويوجد فرح حقيقى وفرح كاذب ، والفرق بين الحقيقى والكاذب فى الحياة المسيحية هو أن الحقيقى يدوم والكاذب لا يدوم بل ينتهى ويزول الى النهاية .


أولاد مسرات هذا الدهر ينغمسون فىالفرح حتى آخر لحظة ، ولا يستيقظون منه إلا على طعنة من طعنات العالم تنزعهم من أفراحهم انتزاعاً لتطرحهم فى التعاسة واليأس الذى يبدد كل سلامهم الماضى ويأتى على كل آمالهم ... وإن هم حاولوا المواجهة والحرب فى آخر لحظة ، يجدون يدهم عاجزة عن حمل الصليب وعكازهم مكسوراً ! ...


أما السلام والراحة والفرح الحقيقى ، فلا يعرفها إلا أولاد النور والتى توجد وتنمو فى كل وقت وفى كل ظرف بل ولا تزدهر وتتجلى إلا فيما يسميه الآخرون بالمصائب والمحن ، ففيها يحلو النشيد نشيد الصليب والتأمل فيه ويرتفع رسمه فى اليد وفى القلب والفكر عالياً . ويصير تمجيده كسلاح النجاح ويعتز الصليب جداً فى عين من جاوزوا الموت وقاموا ...



إن مجد الصليب قاد كل من فقد البصيرة بسبب الجهالة من الظلمة الىالنور وفك قيود كل من ارتبطوا جداً بالخطية وفدى كل عالم الانسان .

القديس كيرلس الأورشليمى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق